جلسة في قاعة الانتظار

saad640

أحفظ الله يحفظك
الحمد لله
جاءت في مجلة الإصلاح السلفية الجزائرية العدد الثالث جمادى الأولى /جمادى الآخرة 1428 ه الموافق ل ماي / جوان 2007 م ص هذه الموازنة اللطيفة بين فضل السكوت وفضل الكلام هي من رقم وتوقيع الأستاذ الأديب محمد بوسلامة وقد أسماها ( جلسة في قاعة الإنتظار .. ) فلتتفضّلوها مشكورين :

جلسة في قاعة الانتظار

اشتدّت بي يوما وعكة فغدوت إلى الطّبيب ألتمس دواء،وكان قد حبسه عنّا حابس ، فما بلغ حتى بلغت السآمة من القلوب مبلغا عميقا ، فجلست في حجرة الانتظار أرقب نوبتي في أناس آخرين ، فمكثنا ساعة من نهار كأنّ الطّير على رؤوسنا ، وقد شدّت الأفواه بأقفال الصمت فلم تنبس الشفاه ببناتها ، ولو عثرت نملة لسمع لعثارها صدى ، ولم يكن من القوم إلاّ تقليب الأبصار في أركان الحجرة والتأمّل في زخرفها ، وطال الصّمت فطال الزّمان ، وقهر القلوب سلطان الملل فترجمت عنها الجوارح ، فهذا يلوي عنقه ويخفّف بذلك ألم الفقار من طول القعود ، وآخر قد جمع كفّيه ينفخ فيهما فتسمع له زفرة المصدور ، وفتل آخر شاربه ، وعبث آخر بلحيته ، وربما شغل بعض القوم بأنفه وإنّ له في ذلك لشغلا ، وكثر التثاؤب فكنت من المتثائبين وإنّ لي من عدواه عجبا ، زمنه أنّني رأيت يوما هرّا يتثاءب فتثاءبت ، كلّ ذلك والقوم لا ينطقون ، ولقد كان من عادتي أن لا أحل موطننا إلاّ أجلت فيه الفكر واستنبأته عمّا انطوى عليه من العبر .

وكان من بركة هذه السنة عليّ ان وعظتني يوما نملة موعظة بليغة جرى لها القلم في مقالة مسجعة سمّيتها (موعظة نملة) ، وكان ذلك زمان اشتغالي بالأسجاع ، ولعلّك تقرؤها يوما ، فقلت في نفسي : إن كان الصمت محمودا فلا ينبغي أن يحمد في مثل هذا الموطن ، وإن كان الكلام مذموما فلا ينبغي أن يذمّ في مثل هذا الموطن ، فاجتمع عندي من هذا وذاك أنّ الكلام والصمت إنّما يحمد كلّ منهما في موطنه ، فالصمت في موضع الكلام مذموم كالكلام في موضع الصّمت ، والموفّق من وضع كلاّ في موضعه ، وكلّ ذلك إنّما يحكمه لبّ اللّبيب ؛ فالصّمت والكلام إن لم يكن وراءهما لبّ كان الصّمت عيّا والكلام خطلا ، وكلّ ما الّف في فضل الصّمت إنّما هو منزل على مواطن فضله ؛ ولا أدري هل ألّفوا في فضل الكلام أم لا ؟ فإن فعلوا كان ذلك من الإنصاف ، ولو احتكم إليّ الصمت والكلام لحكمت للكلام في أكثر الخصومات ؛ ذلك أنّني أرى أنّ الأصل في الصمت عدم النفع ؛ لأنّه عدم وأن أصل الكلام المنفعة ؛ فالعاقل لا يتكلّم إلاّ بما يصلحه وما خلق كلام الناس إلاّ لمصالحهم وحوائجهم ولا يخرج الشّيء عن أصله في أكثر أحواله .

ولم يكن الصّمت دليلا بنفسه ، فما دلّ منه على شيء فإنّما ذلك بمعونة القرائن ، وما أحذ الفقهاء الأحكام من سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ السكوت دليل بنفسه على الإباحة مثلا ، وإنّما أخذوا ذلك من حيث كونه – عليه الصّلاة والسّلام – لا يسكت على الباطل ، فكأنّه قال لهم : ما سكت عنه فهو حلال ؛ فصار سكوته في قوّة الكلام ، ولذلك اختلفوا في سكوت غيره ؛ وما كان سكوت البكر دليلا على رضاها ، وإنّما علم ذلك من شدّة حجلها من التصريح بالّرّضى بخلاف عدم الرّضى فإنّه لا يخجلها التّصريح به ، ولذلك لما انتفت هذه العلّة عند الثيّب رجع السكوت إلى أصله ؛ ولو اطّلع الفقهاء على أبكار زماننا لما اكتفوا منهنّ بالسكوت.

كلّ ذلك والقوم لا ينطقون وطال الصّمت فطال الزّمان وخلا المكان من معاني الأنس ، فلا تسمع للقوم حوارا ولقد كانت المحاورة من أجلّ معاني الأنس الّتي يجدها الإنسان في الإنسان وإنّما يدحل عليك الوحشة الرّجل السّكيت الذي لا يكاد ينطق ، وذلك لأنّ الحوار وقود الأنس وأن الصّمت مخمد لجذاه ، ولهذا فإنّك لا تأنس برجل يحدّثك بغير لغتك ؛ لأنّه في مقام السّاكت وإن كان هذا أقرب إلى التّأنيس من الّذي لا يحدّثك أصلا.
ولقد زعم أهل البصيرة أنّ لفظ (الإنسان) مأخوذ من الأنس ، فإن صفا لهم قولهم صفا لنا – إن شاء الله – أن نقول: إنّ المحاورة هي من أعظم المعاني الّتي من أجلها سمي الإنسان إنسانا ، وكلّ من لم يأنسك حديثه وسكت في مواطن المؤانسة والكلام قد انتقص من إنسانيته ،
وما ظنّك بقوم يجتمعون في ذلك المكان والزّمان لا يتحدّثون ، وإنّ مثل هذا الصّمت لفاش في بني قومي ، وإن أردت له نظيرا فاطلبه في الولائم ومجامع الأفراح حيث تكون غاية الحاضرين هبرة على كثيب الكسكس ، ثمّ بعد ذلك يتفرّقون وقد يكون فيهم الفقيه والأديب والحكيم والظّريف فيضيع اجتماعهم بلا شيء .
وكان ينبغي أن تهتبل هذه المناسبات السّعيدة فيجتمع القوم في مكان يطيب فيه الحديث وتدور الكلمة على الألسن ، فيتكلم الفقيه والأديب وألو النّهى ، ويستمع غيرهم ويتظرّف فيه أهل النّوادر والقصّاصون ، وتنشد فيه الأشعار من الفصيح والملحون ، وقد يكون فيهم رجل من أهل الملاحم الّذين جاهدوا الإحتلال الفرنسي فيروي ملحمة كانت من أيّام الجزائر تزيد الشباب حبّا لهذا الوطن ، فيكون مجلسا يتعلّم فيه النّاس حسن المحاورة وطرائق الكلام ، وقد يجتمع كلّ هؤلاء النبلاء في وليمة واحدة ثمّ لا يحصل شيء من ذلك فيتفرّق بتفرّقهم خير كثير ، ويضيع ما هو خير من الطّعام والشّراب وقد أكون آخذا بطرف من الخيال إذا حدّثتك هذا الحديث ؛ ولكن ما ذكرته لك له حقيقة عند غيرنا من الذين تتفجّر ينابيع ثقافتهم حيثما اجتمعوا ، وإن كان هذا عسيرا فليس عسيرا على الرجل أن يجمع أولاده فيحدّثهم ساعة يجمع فيها أعوادهم ويخبر ما عندهم ، فقد يكون الولد ضعيف الإدراك فيفطن له والده فيسلك به في الحديث مسالك الرّشد والنّباهة حتّى لا ييبس عوده على العيّ والسّفاهة فتندمل نفسه على الحمق كما يندمل الجرح على الفساد ، وقد يكون الولد ذكيّا لبيبا فتزيده المحاورة توقدا لشعلة ذهنه وصقلا لمواهبه فيكون مجلسا يستفيد فيه الذّكيّ و الغبيّ ، ويتحدث فيه الآباء والأبناء فكلّ مستمع ومتكلّم ، وكلّ آخذ ومعط ، فلا يقومون إلاّ ونفوسهم تائقة إلى مجلس مثله فينشؤون على حبّ المحاورة وحسن الحديث ، كلّ ذلك والقوم لا ينطقون ، ولو كان سكوتهم سكوت ورع يخشى زلاّت اللّسان لقلت إنّ القوم يتورّعون وإنّهم من أهل قوله – عليه الصلاة والسلام - : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) ولكنّ الورع قد مات أهله ، وإنّما هو العيّ الذي عقل العقول ، والفهامة الّتي حبست الألسن ؛ ثمّ إنّني قد تأمّلت قوله – عليه الصلاة والسلام – وشمت بروق معانيه فلاح لي منها بارق لطيف يضيء لنا ما نحن فيه ، ووجهه أنّه صلى الله عليه وسلّم حثّ أوّلا على قول الخير ونكّره ليشمل خير الدّين والدنيا، فكان في تقديمه دلالة على انّه الأولى وأنّه ينبغي البحث عن مواضع الكلم النّافع فيجري بها اللّسان ، ولست أرى التّحيير هنا مستوى الطّرفين كالّذي في قولك (صاحب أيّ الرّجلين شئت زيدا أم عمرا) وإنّما هو كالّذي في قولك : (كن عالما أو طالب علم) أي إن استطعت أن تكون عالما فافعل ، فإنّها أبعد الغايتين وأعلى المنزلتين ، فإن أعياك أن تكون عالما فلا أقلّ من أن تكون طالب علم.
فالتّقديم في هذا المثال وفي الحديث الشّريف إنّما هو لبيان الأشرف وهو مشعر بالاهتمام ، فيكون المعنى حينئذ إن استطعت أن تقول خيرا فافعل فهو الأجدر ، فإن لم تجد خيرا فاصمت ، فكلّ من صمت وعنده خير يقوله كان كمن تيمّم دون بحث عن الماء فإن كان عنده خير كان كمتيمم بحضرة الماء ؛ وهذا المعنى الّذي ذكرته تشهد له مقاصد الشريعة الإسلامية ويعين على فهمه تذوّق كلام العرب ، ولا يقدر الإنسان أن يقول خيرا إلاّ إذا أعمل فكره وتلمّس لذهنه الموارد وليس ذلك بعسير ؛ ولكنّه الكسل الّذي أصاب الأبدان فأخملها ، قد كرّ مرّة أخرى فأصاب العقول فأهملها ، كلّ ذلك والقوم لا ينطقون ؛ ثمّ طفقت أتوسّم وجوه القوم لعلّها تخبرني خبر الألسن المكبولة ، وكنت في كلّ موطن من المتوسمّين فيأخذني من الظّنون ما قرب وما بعد ثمّ أتغلغل في أعماق التاريخ فأستدلّ بما غبر ثمّ أرجع بعد ذلك أسفا على أمّة مسخت حضارتها ونسخت نضارتها ، أمّة ركبت مضامير الفخار هملاجا ولبست أيام زينتها ديباجا فأبدلها دهرها من الهملاج قطوفا ومن الديباج صوفا ، فكان آثار غبنها هذه الألسن المكبلة التي لا تحسن التّرجمة عمّا يلابس الأفئدة مع كثرة الموضوعات النافعة في الدين والدّنيا.

ولست آسف على ذي كمه كأسفي على من كان بصيرا ثمّ عمي إن هذا الداء ليتحسّى بلسمه جيل زمن فيظهر الشفاء في أجيال تأتي بها أزمنة أخرى ، وكذلك تداوي الأمم ، وطال الصّمت فطال الزّمان ، ثمّ أطمع في الّذي يحاذيني فألقي إليه الكلمة لعلّها ترجع منه بأختها فأحش بهما للحديث ضراما ، وأجعل منها للصمت صراما فيجيبني بما لا مطمع فيه في بحّة صنعها صمت طويل ثمّ عاد إلى صمته وعدت إلى خواطري الّتي قيّدتها لك مساطري ثمّ جاءت النوبة فقمت وتركت القوم في صمت مديد وكان ذلك آخر الشأن ، تمّت​
 

obeid

Junior Member
بارك الله فيك يا سعد على ما أرسلت
شيء جميل أن تطلع على ما تكتبه المجلات الجزائرية السلفية
جزيت الجنة
 

saad640

أحفظ الله يحفظك
بارك الله فيك يا سعد على ما أرسلت
شيء جميل أن تطلع على ما تكتبه المجلات الجزائرية السلفية
جزيت الجنة

وفيك بارك الله أخي عبيد
 
Top