الواسطة بين الحق والخلق

farhopes

No God but Allah
الواسطة بين الحق والخلق

لشيخ الاسلام ابن تيمية
مسألة: "وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى, آلله خير أمّا يشركون", أما بعد فهذه رسالة في رجلين تناظرا فقال أحدهما لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فاننا لانقدر أن نصل اليه بغير ذلك.

الجواب: الحمد لله رب العالمين . ان أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلّغنا أمر الله فهذا حق فان الخلق لا يعلمون ما يحبّه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعدّه لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه ولا يعرفون ما يستحقّه الله تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك , الاّ بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى الى عباده.

فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقرّبهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرّمهم في الدنيا والآخرة.

وأما المخالفين للرسل فانّهم ملعونو وهم عن ربّهم ضالّون محجوبون قال تعالى:" يا بني آدم ﺇمّا يأتيّنكم رسل منكم يقصّون عليكم آياتي فمن اتّقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون." وقال تعالى:" فاما يأتيّنكم مني هدى فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى."

قال ابن عبّاس تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.

وقال تعالى عن أهل النار:" كلّما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير, قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذّبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء, ان أنتم الا في ضلال كبير."

وقال تعالى:" وسيق الذين كفروا الى جهنّم زمرا حتى اذا فُتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربّكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين."

وقال تعالى:" وما نرسل المرسلين الا مبشّرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذّبوا بآياتنا يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون."

وقال تعالى:" انا أوحينا اليك كما أوحينا الى نوح والنبيين من بعده وأوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيّوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلّم الله موسى تكليما رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل." ومثل هذا في القرآن كثير.

وهذا ما أجمع عليه جميع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى فانهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلّغوا عن الله أمره وخبره.

قال تعالى: " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر باجماع أهل الملل.

والسور التي أنزلها الله بمكة مثل الأنعام والأعراف وذوات (الر) و(حم) و(طس) ونحو ذلك هي متضمنة لأصول الدين كالايمان بالله ورسله واليوم الآخر.

وقد قصّ الله قصص الكفّار الذين كذّبوا الرسل وكيف أهلكهم ونصر رسله والذين آمنوا.

قال تعالى:" ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون"

وقال:" انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد."

فهذه الوسائط تتطاع وتتبع ويقتدى بها كما قال تعالى :" وما أرسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله."

وقال تعالى :" من يطع الرسول فقد أطاع الله" وقال:" قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"

وقال:" فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون".

وقال الله تعالى:" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا."

(وان أراد) بالواسطة أنّه لابد من واسطة في جلب النافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجون اليه فيه.(يرجعون اليه فيه),(يرجونه فيه),فهذا من أعظم الشرك الذي كفّر الله به المشركين حيث اتّخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع و يجتنبون المضار ,لكن الشفاعة لمن يأذن له الله فيها حتى قال:" الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيّام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون."

وقال تعالى:" وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع."

وقال:" قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربّهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا."

وقال:" قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له" الآية.

وقالت طائفة من السلف:كان أقوام يدعون المسيح وتاعزيز والملائكة, فبيّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا وأنهم يتقرّبون الى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه.

وقال تعالى:" ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيامركم بالكفر بعد اذ أنتم مسلمون".

فبيّن سبحانه أن اتخاذ الملائكةوالنبيين أربابا كفر, فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنفعة ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر باجماع المسلمين.

وقد قال تعالى:" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون, يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم اني اله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين."

وقال تعالى:" لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقرّبون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعا."

وقال تعالى:" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّا تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا إن كل من في السموات والأرض الا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدّهم عدّا وكلّهم آتيه يوم القيامة فردا".

وقال تعالى:" ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون".

وفال تعالى:" وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى."

وقال تعالى:" من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه".

وقال تعالى:" وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله".

وقال تعالى:" ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده".

وقال تعالى:" قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون." ومثل هذا كثير في القرآن. ومن سوّى الأنبياء من مشايخ العلم والدين فمن أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلّغونهم ويعلّمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهمة فقد أصاب في ذلك.

وهؤلاء اذا أجمعوا فاجماعهم حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة وان تنازعوا في شئ ردّوه الى الله ورسوله, اذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الاطلاق بل كل أحد من الناس يؤخذ من كلامه ويترك الا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم :" العلماء ورثة الأنبياء فان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورّثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظّ وافر. رواه أبو داود وغيره بسند حسن.

ومن أثبتهم وسائط بين الله وخلقه كالحجاب الذي بين الملك ورعيّته بحيث يكونون هم يرفعون الى الله حوائج خلقه _فالله انما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم_ فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك الحوائج للناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب الى الملك من الطالب للحوائج فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فان تاب, والا قتل, وهؤلاء مشبّهون لله , شبّهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أندادا.

وفي القرآن الكريم من الرد على هؤلاء مالا تتسع له هذه الفتوى, فان الوسائط التي بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وهوه ثلاث:

الوجه الأول: اما لاخبارهم بأحوال الناس بما لا يعرفونه ومن قال أن الله لايعرف أحوال عباده حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر, بل هو سبحانه يعلم السرّ وأخفى , لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير, يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلّط في المسائل ولا يتبرّم بالحاح الملحيّن.

الوجه الثاني: أ، يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيّته ودفع أعدائه الا بأعوان يعينونه فلا بد له من أنصار وأعوان, لذلّه وعجزه والله سبحانه وتعالى ليس له ظهير ولا وليّ من الذل , قال تعالى:" قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير."

وقال تعالى:" وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرا."

وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربّه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير اليه بخلاف الملوك المحتاجين الى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك والله تعالى ليس له شريك في الملك بل لا اله الا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شئ قدير.

والوجه الثالث:" أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيّته والاحسان اليهم ورحمتهم الا بمحرك يحرّكه من خارج فاذا خاطب الملك من يعظّمه وينصحه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت ارادة الملك وهمّته في قضاء حوائج رعيّته اما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير واما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدلل عليه. والله تعالى هو رب كل شئ ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. وكل الأشياء انما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو اذا جرى نفع العباد بعضهم على بعض فجعل هذا يحسن الى هذا ويدعوا له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كلّه. وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع من ارادة الاحسان والدعاء والشفاعة.

ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلم أو من يرجوه الرب ويخافه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي ان شئت اللهم ارحمني ان شئت ولكن ليجزم المسألة فانه لا مكره له.

والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون الا باذنه كما قال:" من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه".

وقال تعالى:" ولا يشفعون الا لمن ارتضى", وقال تعالى:" قل ادعوا الذيين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له:. فبيّن أن كل ما دعي من دونه ليس له ملك ولا شرك في الملك ولا هو ظهير, وأن شفاعتهم لا تنفع الا لمن أذن له, وهذا بخلاف الملوك فان الشافع عندهم قد يكون له ملك وقد يكون شريكا لهم في الملك وقد يكون ظهيرا لهم معاونا لهم على ملكهم وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير اذن الملوك, هم وغيرهم والملك يقبل شفاعتهم تارة بحاجة اليهم وتارة لخوف منهم وتارة لجزاء احسانهم اليه ومكافأتهم وانعامهم عليه حتى أن يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فانه محتاج الى الزوجة والى الولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك, ويقبل بشفاعة مملوكه فاذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه أو يسعى لضرره وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد الا لرغبة أو رهبة. والله تعالى لا يرجو أحد ولا يخافه ولا يحتاج الى أحد بل هو الغني, قال تعالى:" ألا ان لله من في السموات ومن في الأرض وما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاء ان يتّبعون الا الظن وان هم الا يخرصون", الى قوله" قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض." والمشركون يتّخذونشفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة. قال تعالى:" ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون".

وقال تعالى:" فلولا نصرهم الذين اتّخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلّوا عنهم وذلك افكهم وما كانوا يفترون."

وأخبر عن المشركين أنهم قالوا:" ما نعبدهم الا ليقرّبونا الى الله زلفى", وقال تعالى:" ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد اذ أنتم مسلمون."

وقال تعالى:" قل ادعوا الذين زعمتم من دونه لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربّهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا." فأخبر أن من يدّعي من دونه لا يملك تحويل الضر ولا كشفه أنهم يرجون لرحمته ويخافون عذابه ويتقرّبون اليه, فهو سبحانه قد نفى ما للأنبياء والملائكة الا الشفاعة باذنه والشفاعة هي الدعاء ولا ريب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع ,الله قد أمر بذلك.

لكنّ الداعي الشافع ليس لهأن يدعو ويشفع الا باذن له في ذلك, فلا يشفع شفاعة نهى عنها كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة, قال تعالى:" ما كان للنبي والذين معه أ، يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار ابراهيم لأبيه الا عن موعدة وعدها ايّاه فلما تبيّن له أنه عدو الله تبرّأ منه." وقال تعالى في حق المنافقين:" سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم".

وقد ثبت في الصحيحين أ، الله نهى نبيّه عن الاستغفار للمشركين والمنافقين وأخبر أنه لا يغفر لهم كما في قوله:"ان الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء", وقوله:" ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون", وقد قال تعالى:" ادعوا ربّكم تضرّعا وخفية انه لا يحب المعتدين". في الدعاء ومن الاعتداء في الدعاء أن يسألأ العبد ما لم يكن الرب ليفعله مثل أن يسأله منزلة الأنبياء وليس منهم, أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك أو يسأله ما فيه معصية الله كاعانته على الكفر والفسوق والعصيان, فالشفيع الذي أذن له الله في الشفاعة وشفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان ولو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه فانهم معصومون أن يقرّوا على ذلك. كما قال نوح:" ان ابني من أهلي وان وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين" قال تعالى:" يا نوح انه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم اني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب اني أعوذ بك أن أسألأك ما ليس لي به علم والا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين".

وكل داع شافع دعا الله سبحانه وتعالى وشفع فلا يكون دعاؤه وشفاعته الا بقضاء الله وقدره ومشيئته وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة فهو الذي خلق السبب والمسبب,والدعاء من جملة الأسباب التي قدّرها الله سبحانه وتعالى".

واذا كان كذلك فالاتفات الى الأسباب شرك ,وذلك اذا اعتقد أن هذه الأفعال تفعل فعلها من نفسها دون وجود الله: الفاعل الحقيقي لها, في التوحيد, ومحو الأسباب أن تكون أسبابا من نقص العقل. والاعراض عن الأسباب بالكليّة قدح في الشرع بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته الى الله سبحانه وتعالى يقدّر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء والدعاء مشروع أن يدعوا الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى.

فطلب الشفاعة والدعاء من الأنبياء كما كان المسلمون يستشفعون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء.

بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعبّاس عمّه, والناس يطلبون الشفاعة يوم القيامة من الانبياء ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم سيّد الشفعاء وله شفاعات يختصّ بها, ومع هذا قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: اذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فانه من صلّى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فانها درجة في الجنّة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له شفاعتي يوم القيامة. وقد قال لعمر لمّا أراد أن يعتمر وودعه وقال يا أخي لا تنسني من دعائك, في سنده عاصم بن عبد الله وهو ضعيف, فالنبي صلى الله عليه وسلّم قد طلب من أمّته أن تدعوا له ولكن ليس ذلك من باب سؤالهم بل أمره بذلك كأمره لهم بسائر الطاعات التي يثابون عليها مع أنّه صلّى الله عليه وسلّم له مثل أجورهم بكل ما يعملونه.

فانّه قد صحّ عن النبي أنّه قال من دعا الى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتّبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا الى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا. وهو داعي الأمة الى كلّ هدى فله مثل أجورهم في كلّ ما اتّبعوه فيه وكذلك اذا صلّوا عليه فان الله يصلّي على أحدهم عشرا وله مثل أجورهم مع ما يستجيبه من دعائهم له فذلك الدعاء قد أعطاهم الله أجلرهم عليه وصار ما حصل له به من النفع نعمة من الله عليه.

وقد ثبت عنه في الصحيح أنّه قال ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة الاوكّل الله به ملكا كلّما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكّل به آمين ولك مثل ذلك. وفي حديث آخر: أسرع الدعاء دعوة غائب لغائب. فالدعاء للغير ينتفع به الداعي والمدعو لهوان كان الداعي دون المدعو له , فمن قال لغيره ادع لي وقصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البرّ والتقوى فهو نبّه المسؤول وأشار عليه بما ينفعهما.

والمسؤول فعل ما ينفعهما بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى , فيثاب المأمور على فعله والآمر أيضا يثاب بمثل ثوابه لكونه دعا اليه لا سيّما من الأدعية ما يؤمر بها العبد كما قال تعالى:" واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" فأمره بالستغفار ثم قال:" ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّابا رحيما" فذكر سبحانه وتعالى استغفارهم واستغفار الرسول لهم اذ ذاك مما أمر الله به الرسول حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولم يأمر الله مخلوقا أن يسأل مخلوقا شيئا لم يأمر الله المخلوق به بل ما أمر الله العبد أمر ايجاب أو استجاب ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة الى الله وصلاح لفاعله وحسنة فيه واذا فعل ذلك كان من أعظم احسان الله اليه وانعامه عليه , بل أجلّ نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للايمان والايمان قول وعمل جائز بالطاعة والحسنات وكلّما ازداد العبد عملا للخير ازداد ايمانه, هذا هو الايمان الحقيقي المذكور في قوله " صراط الذين أنعمت عليهم " وفي قوله" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" بل نِعم الدنيا بدون دين هل هي نعمة أم لا؟ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم, والتحقيق أنها نعمة من وجه وان لم تكن نعمة تامّة من وجه.

وأمّا الانعام بالدين الذي ينبغي طلبه فهو ما أمر الله به من واجب ومستحب فهو الخير الذي يجب طلبه باتفاق المسلمين وهو النعمة الحقيقيّة عند أهل السنّة, اذ عندهم أن الله هو الذي أنعم بفعل الخير والقدريّة عندهم, انما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط. والمقصود هنا أن الله لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا الا ما كان مصلحة لذلك المخلوق أما واجب أو مستحب, فانّه سبحانه وتعالى لا يطلب من العبد الا ذلك فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك, بل قد حرّم على العبد أن يسأل العبد ما له الا عند الضرورة, وان كان قصده مصلحة المأمور أ, مصلحته ومصلحة المأمور فهذا يثاب على ذلك وان كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور فهذا من نفسه آتي.

ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط بل قد نهى عنه اذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته والله يأمرنا أن نعبده ونرغب اليه ويأمرنا أن نحسن الى عباده.

وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا فلم يقصد الرغبة الى الله , ودعاءه هو الصلاة ولا قصد الاحسان الى الخلق الذي هو الزكاة, وان كان العبد لا يأثم بمثل هذا السؤال لكن فرق بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن فيه.

الا ترى في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنّة بغير حساب أنّهم لا يسترقون؟ وان كان الاسترقاء جائزا وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله وخلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرّعية فهو مشرك بل هذا دين المشركين عبّاد الأوثان, كانوا يقولون أنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقرّبون بها الى الله وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى حيث قال:" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه وتعالى عمّا يشركون."

وقال تعالى:" واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون" أي فليستجيبوا لي اذا دعوتهم بالأمر والنهي وليؤمنوا بي أي أن أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرّع وقال تعالى:" فاذا فرغت فانصب والى ربّك فارغب" وقال تعالى:" واذا مسّكم الضر بالبحر ضلّ من تدعون الا ايّاه", وقال تعالى:" أمّن يجيب المضطراذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض."وقال تعالى:" يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن".

وقد بيّن الله هذا التوحيد في كتابه وحسم مواد الاشراك به حتى لا يخاف أحد غير الله ولا يرجو سواه ولا يتوكل الا عليه, وقال تعالى:" فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا",وقال تعالى:" انما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه" أي يخوّفكم أولياءه "فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين" وقال تعالى:" ألم تر الى الذين قيل لهم كفّواأيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية", وقال تعالى:" انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله", وقال تعالى:" ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتّقه فأولئك هم الفائزون". فبيّن أن الطاعة لله ورسوله, وأما الخشية لله وحده, وقال تعالى:" ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله". ونظيره قوله تعالى:" الذين قال لهم الناس انّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك اذ هذا تحقيق قولنا لا اله الا الله , فان الاله هو الذي تألهه القلوب بكمال المحبّة والتعظيم والاجلال والاكرام والرجاء والخوف حتى قال لهم لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد. وقال له رجل ما شاء الله وشئت, فقال أجعلتني لله ندّا قل ما شاء الله وحده.وقال: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت .وقال: من حلف بغير الله فقد أشرك, وقال لابن عبّاس: اذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله جفّ القلم بما أنت لاق فلو جهدت الخليقة على أن تنفعك لم تنفعك الا بشئ قد كتبه الل لك ولو جهدت أن تضرّك لم تضرّك الا بشئ كتبه الله عليك . وقال أيضا لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وانما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله. وقال : اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد . وقال: لا تتخذوا قبري عيدا وصلّوا عليّ فانّ صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم. وقال في مرضه لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا, قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يُتخذ مسجدا. وهذا باب واسع ومع علم المؤمن أن الله ربّ كلّ شئ ومليكه فانه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب كما جعل المطر سببا لانبات النبات قال الله تعالى:" وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيهما من كلّ دابة. كما جعل الشمس والقمر سببا لما يخلقه بهما وكما جعل الشفاعة والدعاء سببا لما يقضيه بذلك مثل صلاة المسلمين على جنازة الميّت فان ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها ويثيب عليها المصلّين عليه, لكن يجب أن يُعرف في الأسباب ثلاثة أمور, أحدها أن السبب المعيّن لايستقل بالمطلوب بل لا بد معه من أسباب أُخر, ومع هذا فلها موانع. فان لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع لم يحصل المقصود وهوسبحانه ما شاء كان وان لم يشأ الناس وما شاء الناس لا يكون الا أن يشاء الله.
الثاني أن لا يجوز أن يعتقد أن الشئ سبب الا بعلم , فمن أثبت شيا سببا بلا علم أو يخالف الشرع كان مبطلا مثل أن يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه نهى عن النذر وقال أنه لا يأتي بخير وانما يستخرج به منه البخيل.
الثالث أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شئ سببا الا أن تكوم مشروعة, فان العبادات مبناها على التوقيف فلا يجوز للانسان أن يشرك بالله فيدعو غيره وان ظنّ أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه ولذلك لا يُعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة وان ظن ذلك فان الشياطين قد تعين الانسان على بعض مقاصده اذا أشرك وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الانسان فلا يحلّ له ذلك اذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به , اذ الرسول صلى الله عليه وسلّم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها. وتعطيل المفاسد وتقليلها. فما أمر الله به فمصلحته راجحة وما نهى عنه فمفسدته راجحة. وهذه الجمل لها بسط لا تحتمله هذه الوريقات والله أعلم.

( تمّت الرسالة والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده)
 
Top