استقبال الناس للخطيب
عبد العزيز بن محمد بن عبد الله الحجيلان
استقبال الناس للخطيب
اختلف الفقهاء في حكم استقبال الناس للخطيب أثناء الخطبة ، وذلك على قولين :
القول الأول : يسن للناس استقباله .
وبهذا قال الحنفية (1) ، والمالكية في قول لهم (2) ، والشافعية (3) ، والحنابلة (4) .
قال في المغني : " قال ابن المنذر (5) : هذا كالإجماع " (6) .
القول الثاني : يجب على الناس استقباله .
وهذا قول للمالكية ، قال بعضهم : إنه المذهب ، وقيل : المذهب الأول (7) .
القول الثالث : لا يسن للناس استقباله ، وإنما يستقبلون القبلة .
وبهذا قال الحسن البصري ، وسعيد (8) بن المسيب (9) .
الأدلة :
أدلة أصحاب القول الأول :
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة ، وآثار الصحابة ، والمعقول :
أولا : من السنة :
فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء خطبته وإقراره السكوتي لذلك ، قال ابن القيم - رحمه الله - بعد أن ذكر المنبر : " . . . وكان إذا جلس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير الجمعة ، أو خطب قائما في الجمعة استدار أصحابه إليه بوجوههم " (10) .
ومن الأحاديث الواردة في هذا الفعل ما يلي :
1- ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله . . . » الحديث (11) .
وجه الدلالة : أن جلوسهم حوله - صلى الله عليه وسلم - لسماع كلامه ، وهذا يقتضي نظرهم إليه غالبا (12) .
2- ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا » (13) .
مناقشة هذا الدليل : يناقش بأنه ضعيف الإسناد كما في تخريجه .
3- ما رواه عدي (14) بن ثابت عن أبيه عن جده قال : « كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم » (15)
وهذا واضح الدلالة كالذي قبله ، ولكن في ثبوته كلام كما في تخريجه .
ثانيا : من آثار الصحابة - رضي الله عنهم - :
1- ما روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه كان إذا أخذ الإمام في الخطبة يستقبله بوجهه حتى يفرغ من خطبته (16) .
2- ما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام ، فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله (17) .
3- ما روي عن عدي بن ثابت أنه كان يستقبل الإمام بوجهه إذا قام يخطب ، فقيل له عن ذلك ، فقال : " رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلونه " (18) .
4- وعن الزهري (19) أنه سئل عن استقبال الناس الإمام يوم الجمعة فقال : " كذا كانوا يفعلون " (20) .
وظاهره أنه يقصد الصحابة - رضي الله عنهم - فيكون بمعنى ما قبله ، ويؤيده .
ثالثا : من المعقول :
1- أن الخطيب يعظ الناس ، ولهذا استقبلهم بوجهه وترك استقبال القبلة ، فيسن لهم أن يستقبلوه بوجوههم ؛ لتظهر فائدة الوعظ ، وتعظيم الذكر (21) .
2- أن الإسماع والاستماع للخطبة كليهما واجب ، وهذا وإن كان يحصل مع عدم الاستقبال إلا أنه لا يتكامل إلا به ، فيسن (22) .
3- أن الخطيب مقبل على الناس ، فكان من الأدب إقبالهم عليه (23) .
دليل أصحاب القول الثاني :
أن الإمام ترك استقبال القبلة واستقبل الناس ، ليكون أبلغ في وعظهم ، فيجب عليهم أن يستقبلوه إجابة له وطاعة (24) .
مناقشة هذا الدليل : يناقش بأن القصد هو الوعظ كما جاء في مضمون الدليل ، وهو الذي تجب على الناس إجابته وطاعة الإمام فيه ، وهذا حاصل مع عدم الاستقبال ، أما الاستقبال فهو وسيلة إلى حصول هذا القصد على وجه الكمال ، والكمال ليس واجبا ، فليس في عدم الاستقبال عدم إجابة وطاعة ، لأنه غير مقصود لذاته .
دليل صاحبي القول الثالث :
لم أطلع على أدلة لهما ، ولعله يستدل لهما بما يلي :
1- أن المقصود هو سماع الخطبة ، وهذا حاصل مع عدم استقبال الخطيب .
مناقشة هذا الدليل : يناقش بأنه وإن كان السماع يحصل مع عدم الاستقبال إلا أنه مع الاستقبال أكمل وأدعى للاستفادة ، وأبعد عن الغفلة ، فيسن .
2- أن سماع الخطبة عبادة ، فاستقبال القبلة فيها أفضل كحال الدعاء ، والذكر ، وتلاوة القرآن الكريم .
مناقشة هذا الدليل : يناقش بالفرق ، وذلك أن حال سماع الخطبة يكون الإنسان بحاجة إلى غيره وهو الخطيب للاستماع والاستفادة ، بخلاف حال الدعاء والذكر والتلاوة فهو بحاجة إلى التفرغ لما هو مشتغل به .
الترجيح :
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم بالصواب - هو القول الأول القائل بسنية استقبال الخطيب أثناء الخطبة ؛ لما استدلوا به ، لكن إذا كان في استقباله مشقة وحرج أثناء ذلك لشدة زحام أو غيره كما هو الحال في كثير من المساجد الآن فلا بأس بتركه ، قال في المبسوط : " وينبغي للرجل أن يستقبل الخطيب بوجهه إذا أخذ في الخطبة . . . ولكن الرسم الآن أن القوم يستقبلون القبلة ، ولم يؤمروا بترك هذا لما يلحقهم من الحرج في تسوية الصفوف بعد فراغه ، لكثرة الزحام إذا استقبلوه بوجوههم في حالة الخطبة " (25) .
_________
(1) ينظر : المبسوط 2 / 30 ، وبدائع الصنائع 1 / 263 ، وفتاوى قاضي خان 1 / 181 ، والفتاوى الهندية 1 / 147 ، ومجمع الأنهر 1 / 171 .
(2) ينظر : الشرح الصغير للدردير 1 / 180 ، ومواهب الجليل 2 / 166 .
(3) ينظر : الحاوي 3 / 46 - 47 ، والوجيز 1 / 64 ، والمجموع 4 / 528 ، وروضة الطالبين 2 / 28 ، ومغني المحتاج 1 / 287 .
(4) ينظر : الهداية لأبي الخطاب 1 / 52 ، والمغني 3 / 172 ، والفروع 2 / 121 ، والمحرر 1 / 151 ، والإنصاف 2 / 396 ، وكشاف القناع 2 / 37 .
(5) هو محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ، يكنى بأبي بكر ، نزل مكة ، يعد من كبار الشافعية ، قال عنه الذهبي : كان غاية في معرفة الاختلاف الدليل ، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا ، له مصنفات منها : الإشراف على مذاهب أهل العلم ، والإجماع ، توفي سنة 319 هـ . ( ينظر : طبقات الشافعية للسبكي 2 / 126 ، وطبقات الشافعية للإسنوي 2 / 197 ) .
(6) المغني 3 / 172 ، وقال ابن حجر في الفتح 2 / 402 : « قال ابن المنذر : لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء » .
(7) ينظر : مواهب الجليل والتاج والإكليل بهامشه 2 / 166 ، والفواكه الدواني 1 / 310 ، عارضة الأحوذي 2 / 297 - 298 .
(8) هو سعيد بن المسيب بن حزن القرشي ، المخزومي ، من كبار التابعين وفقهائهم ، قال فيه قتادة : ما رأيت أحدا قط أعلم بالحلال والحرام منه ، وثقه أبو زرعة ، وابن حبان ، وغيرهما ، وتوفي سنة 93 هـ ، وقيل 94 هـ . ( ينظر : طبقات ابن سعد 2 / 379 ، وتهذيب التهذيب 4 / 84 ) .
(9) نقل ذلك عنهما ابن قدامة في المغني 3 / 172 ، ولم أعثر عليه فيما بين يدي من كتب الآثار .
(10) زاد المعاد 1 / 430 .
(11) تقدم تخريجه ص ( 85 ) .
(12) ينظر : فتح الباري 2 / 402 .
(13) أخرجه الترمذي في سننه في أبواب الجمعة - باب ما جاء في استقبال الإمام إذا خطب 2 / 10 ، الحديث رقم ( 507 ) ، وقال عنه : « حديث منصور لا نعرفه إلا من حديث محمد بن الفضيل بن عطية ، ومحمد بن الفضيل بن عطية ذاهب الحديث عند أصحابنا . ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء » قال ابن حجر في الفتح 2 / 42 : « يعني صريحا » . وقال ابن حجر في التلخيص بهامش المجموع 4 / 601 عنه : « وفيه محمد بن الفضل بن عطية وهو ضعيف ، وقد تفرد به الدارقطني ، وابن عدي وغيرهما » .
(14) هو عدي بن ثابت الأنصاري ، الكوفي ، وثقه الإمام أحمد ، والنسائي ، والعجلي ، وقد رمي بالتشيع ، قيل : كان إمام مسجد الشيعة وقاصهم ، مات سنة 116 هـ . ( ينظر : سير أعلام النبلاء 5 / 188 ، وتهذيب التهذيب 7 / 165 ) .
(15) أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب إقامة الصلاة - باب ما جاء في استقبال الإمام وهو يخطب 1 / 360 ، الحديث رقم ( 1136 ) ، وقال في الزوائد : « رجال إسناده ثقات لأنه مرسل » ، وابن أبي شيبة مرسلا في كتاب الصلوات - باب من كان يستقبل الإمام يوم الجمعة 2 / 117 ، وقال ابن حجر في التلخيص بهامش المجموع 4 / 602 : « ووالد عدي لا صحبة له إلا أن يراد بأبيه جده أبو أبيه فله صحبة على رأي بعض الحفاظ المتأخرين » . وقال محقق شرح الزركشي 2 / 167 عما رواه ابن أبي شيبة : « بسند صحيح عن عدي بن ثابت مرسلا » .
(16) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب يستقبل الإمام القوم . 1 / 221 ، مختصرا معلقا بصيغة الجزم ، والبيهقي بسنده بهذا اللفظ في سننه الكبرى في كتاب الجمعة - باب يحول الناس وجوههم إلى الإمام ويسمعون الذكر 3 / 199 ، وقال ابن حجر في الفتح 2 / 402 : « بإسناده صحيح » ، وابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الصلوات - باب من كان يستقبل الإمام يوم الجمعة 2 / 118 مختصرا .
(17) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة - باب يستقبل الإمام القوم . 1 / 221 ، مختصرا معلقا بصيغة الجزم ، والبيهقي بسنده بهذا اللفظ في سننه الكبرى في كتاب الجمعة - باب يحول وجوههم إلى الإمام ويسمعون الذكر 3 / 199 ، وعبد الرزاق في مصنفه في باب الجمعة - باب استقبال الناس 3 / 217 ، الأثر رقم ( 5391 ) مختصرا .
(18) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب يوم الجمعة - باب يحول الناس وجوههم إلى الإمام يسمعون الذكر 3 / 198 - 199 وفي لفظ له : هكذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون حديثا مرسلا ، قال في الجوهر النقي بهامشه : « هذا مسند وليس بمرسل ، لأن الصحابة كلهم عدول فلا تضرهم الجهالة » .
(19) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، القرشي ، يكنى بأبي بكر ، كان من أبرز حفاظ التابعين ، وفقهائهم ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : حفظ الزهري الإسلام نحوا من سبعين سنة ، توفي سنة 123هـ ، وقيل غير ذلك . ( ينظر : طبقات ابن سعد 2 / 388 ، وتذكرة الحفاظ 1 / 108 .
(20) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجمعة - باب من استقبل الناس 3 / 117 ، والأثر رقم ( 5390 ) .
(21) ينظر : المبسوط 2 / 30 ، والحاوي 3 / 47 .
(22) ينظر : بدائع الصنائع 1 / 263 ، والمغني 3 / 173 .
(23) ينظر : مواهب الجليل 2 / 166 ، والحاوي 3 / 47 ، والمجموع 4 / 528 ، ومغني المحتاج 1 / 287 .
(24) ينظر : مواهب الجليل 2 / 166 .
(25) المبسوط 2 / 30 .
www.almenhaj.net