.لماذا الجهاد؟!

الطائفة المنصورة وظهور الدين
وقد كتب الله تعالى لدينه الظهور والرفعة والغلبة بالحجّة والبيان وبالسيف والسنان، قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}.

وقد جاء صلى الله عليه وسلم ابتلاًء للناس، قال: (إنّي مبتليك ومُبتلٍ بك) [5].

ومن أجل إقامة الدين وحصول الرفعة والغلبة أرسل الله مع نبيّه الكتاب والميزان والحديد، قال تعالى: {لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصُرُه ورسُلَه بالغيب إن الله لقويٌّ عزيز}.

فكتابه يهدي إلى الحقّ، والحديد يُقوِّم من خرج عنه، والناس لا يُصلِحُهم إلاّ هذا، ومتى ضعف في الناس أحدُ الأمرين - الكتاب والحديد - حصل الفساد والخراب.

قال صلى الله عليه وسلم: (بُعِثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتّى يُعبَدَ الله وحده).

فكان هذا ميراثه في أمّته؛ الكتاب الهادي والسيف المانع المقوّم، فكان الناس قسمين؛ علماء وأهل جهاد، وقد جمع الله هاتين الفضيلتين لخير الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة، قال تعالى: {محمّد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماءُ بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار}.

وقال عليه الصلاة والسلام: (إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنّما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ عظيم وافر) [6].

فكما أمر الله تعالى نبيّه بالاقتداء في الأنبياء، كما قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، فكذلك أمر الله أمّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أن تقتدي به، فأسرع الناسُ في التسابق في أخذ ميراثه وإقامته في أنفسهم وفي الناس، فمن أقبل على دين الله يريده ويبتغيه؛ علّموه وفقّهوه.

كما قال عليه الصلاة والسلام: (نضّر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها) [7].

ومن أعرض عنه؛ قاتلوه حتّى يخضع لحكم الله تعالى، كما قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}.

وهكذا كان دور أتباع محمّد، وهذا كان عملهم؛ هداية الخلق إلى الحقّ وتقويم من أعرض وتعدّى، لا عمل لهم في حقيقة الأمر إلاّ هذا.

فلمّا توفيّ رسول الله انتشر الصحابة في الآفاق، فخرج جيش أسامة لقتال الروم، وخرجت جموع الصحابة لقتال من ارتدّ من العرب عن الإسلام، ثمَّ حملوا هذا الدين للتابعين ثمّ جيلاً بعد جيل.

قال عليه الصلاة والسلام: (يحمل هذا العلم من كلّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) [8].

فكان مداد العلماء ودماء الشهداء؛ هما أحبّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى، مداد العلماء؛ لهداية الخلق وتعليمهم السنّة وكشف البدعة ونشر الحقّ، ودماء الشهداء؛ من أجل نشر التنزيل وحفظ التأويل، وكلّما أظهر الناس بدعة قام لها العلماء حقّ القيام فأزالوا عنها زيفها ونفّروا الناس منها، وكلما جهل الناس سنّة أظهروها وعلّموها الأمّة، وكلّما خرج عن هذه الأمّة من داخلها من يريد لها شرّاً أو جاء من خارجها ليستبيح بيضتها؛ قاموا له بالسيف حتّى يكسروا له قرنه ويردّوه على عقبيه ويدخلوه حجره.

كذا فعل الصدّيق مع المرتدّين، وكذا فعل عليّ بن أبي طالب مع الخوارج إذ أرسل لهم عبد الله بن عبّاس فناظرهم حتى ردّ أكثرهم ثمّ قاتلهم حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة، وهكذا فعل عمر بن عبد العزيز معهم.

وقد كتب الله تعالى بقاء طائفة منصورة قائمة بالحقّ والهدى وحاملةً للسيف والسنان إلى قيام الساعة.

قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة)، قال: (فينزل عيسى بن مريم عليه السلام، فيقول إمامهم: تعالى صلّ لنا، فيقول: لا، إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمّة) [9].

وفيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله: (لا تزال عصابة من أمّتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوّهم، لا يضرّهم من خالفهم حتّى تأتي الساعة وهم على ذلك).

وهؤلاء في كلّ وقت غرباء.

وروى الترمذي في سننه وقال: (حسن صحيح)، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الدين بدأ غريباً، ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي).

وفي رواية أخرى عند غيره قال عنهم: (الفرّارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى عليه السلام).

وفي رواية: (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممّن يطيعهم).

فورّاث النبيّ صنفان:

علماء دعاة إلى الحقّ والهدى، لا يكتمون الناس شيئاً، كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس ولا تكتمونه}، وقد أنذر من علم علماً أوجبه الله على الناس ثمّ كتمه بأن يلجمه يوم القيامة بلجام من نار – كـما في الحديث الصحيح -

وصنفٌ آخر هم الذين يحمون هذا العلم ويقيمونه في الناس إذا ملكتهم الأهواء، وهم المجاهدون في سبيل الله.

وخير الأمرين هو من جمع بين الفضلين، وهذه هي صفة الطائفة المنصورة، فهي طائفة علم وجهاد.

قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبيّ بعثه الله في أمّة قبلي إلاّ كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثمّ إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) [10].

وكان العلماء على الدوام هم حجّة الله على هذه الأمّة، كما كان شأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في فتنة خلق القرآن، إذ وقف لهذه الفتنة التي كادت تعصف بالأمّة وتخرجها إلى الشرك والكفران موقف الأسد الذي يحمي ذمامه، فنصره الله وأيّده، وكما هو موقف علماء المالكيّة من أتباع سحنون في فتنة الباطنيّة العبيدية؛ حين قاتلوهم وكشفوا زندقتهم.

قال الرعينيّ في كتابه: (أجمع علماء القيروان - أبو محمّد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسيّ، وأبو القاسم بن شبلون، وأبو علي بن خلدون وأبو محمد الطبيقي وأبو بكر بن عذرة -؛ أنّ حال بني عبيد، حال المرتدّين والزنادقة، فحال المرتدّين؛ بما أظهروه من خلاف الشريعة فلا يورثون بالإجماع، وحال الزنادقة؛ بما أخفوه من التعطيل، فيقتلون بالزندقة) [11].

وخرج العلماء لقتالهم.

قال أبو الفرج ابن الجوزي: (أقام جوهر - الصقلي نائب العبيديين في مصر - القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي - الإمام القدوة - وقال له: بلغنا أنّك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة؟ قال: ما قُلت هذا، بل قلت؛ إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنّكم غيّرتم الملّة، وقتلتم الصالحين، وادّعيتم نور الإلهية، فشهره ثمّ ضربه ثمّ أمر يهوديّاً فسلخه) [12].

وقال الذهبيّ: (وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه. وخطب الإمام أحمد بن أبي وليد الناس قائلاً: جاهدوا من كفر بالله وزعم أنّه ربّ من دون الله، وغيّر أحكام الله وسبّ نبيّه صلى الله عليه وسلم وأصحاب نبيّه، فبكى الناس بكاءً شديداً. وركب ربيع القطّان فرسا ملبساً، وفي عنقه المصحف وحوله جمع كبير وهو يتلو آيات جهاد الكفرة، فاستشهد هو وخلق من الناس).

وهكذا كان شأن الإمام أحمد بن تيمية في بيانه للحق والهدى والسنة، فكشف أهل البدع من متكلّمين وفلاسفة وصوفيّة، وجلّى الحق الذي غشيته زبالات الأهواء أحسن بيان وأجلاه، ثمّ قام مقام المجاهدين؛ فقاتل التتار وحرّض الناس على قتالهم وحضّ ملوك الإسلام عليهم وخوّفهم إن لم يقوموا بواجب الجهاد ضدّ التتار أنّه ومن معه من المسلمين سيبدلونهم ويختارون ملوكاً عليهم غيرهم، ولما التبس على الناس أمر قتالهم وفي أيّ نوع من الأنواع يدخل قتالهم؛ بيّن أنّ قتالهم هو قتال من امتنع عن شرائع الإسلام، فعاد الحقّ أبلجاً وكشف الله الغمّة وهزم التتار في معركة شقحب - مرج الصفر -

ثمّ ما كان من شأن الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى حين دعا إلى التوحيد والسنّة فعُودي ورُمي عن قوس واحدة.

وهكذا هي سلسلة الدعوة والجهاد، حلقاتها تمتدّ من زمن إلى زمن، لا تنقطع ولا تتوقّف حتّى يومنا هذا..... الكاتب : أبو قتادة الفلسطيني
 
Top